01 يناير . 10 دقائق قراءة . 814
إني بلَّغتُهم كلمتك فأبغضهم العالم، لأنهم ليسوا من العالم
كما أني لست من العالم. لا أسألك أن تُخرجهم من العالم،
بل أن تحفظهم من الشرير.
إنجيل يوحنا 17: 14-15
في أكثر من لقاء مع أستاذنا المرحوم ندره اليازجي، شدَّد كعادته حين يتطرق إلى فلسفته الأخلاقية – على وجوب "تطبيق أنبل المبادئ في أدنى العوالم على سلَّم الوجود وأكثفها وأصعبها"، مكررًا عبارة "أن نكون في العالم دون أن نكون منه".
إذا قلبنا مدلول كل من حرفَيّ الجر في عبارة الأستاذ اليازجي العميقة، نجد على ما يبدو أنهم قلة بين الناس مَن يفقهون معنى أن يكون الإنسان جزءًا لا يتجزأ من العالم بالمعنى الروحي للكلمة، لا بالمعنى "الانتمائي" الدنيوي السائد، في حين أن سواهم منخرطون في العالم، غارقون فيه، شأنهم شأن الغريق في مستنقع وحل، فلا يعون ما يجري عليهم. لقد كانت الحياة قديمًا تشبَّه بالدوران مع عجلة، حتى قيل إن الأمير قد يغدو خادمًا والحاجب وزيرًا! العالم الأرضي برمته، كالنملة العالقة بدولاب دائر، يرتفع وينخفض، ولا أحد على يقين من أن "سعادة" اليوم ستدوم غدًا. كذا فإن عجلة سمسارا samsāra في التراث الروحي للشرق ترمز، في جملة ما ترمز إليه، إلى حال الحيرة القصوى التي نعيش فيها في هذا العالم دائم التقلب، حيث لا أحد مستثنى من فقدان ما يملكه، أو يتمتع به، أو يتلهف للحصول عليه.
من الرموز الأخرى المستعمَلة لوصف العالم في التراث الهندي رمز "خضم الحياة" (بهڤا-ساگرا bhava-sāgara): يقال في هذا البحر إنه محفوف بالمهالك، تثور فيه العواصف وتجول فيه أسماك القرش وغيرها من المخلوقات المفترسة؛ والحياة الدنيوية تشبَّه بالسباحة الشاقة في هذا الخضم. لكنْ حتى الذين يتفقون – نظريًّا – مع ما تدل عليه هذه الصور البيانية الموحية قلما يأخذون ضرورة إحداث تعديل ملموس في حياتهم على محمل الجد، فيواصلون العيش "يفترسهم" الخطر وكأنه غير موجود أصلًا. غير أن مكمن الخطر ليس في احتمال خسارة المال أو المنصب أو مكابدة الذل بعد العزة؛ أخطر الأخطار إنما هو الانجراف الأعمى في تيارات "خضم الحياة"، من غير أي وعي بما يحدث، وفقدان البوصلة المعنوية والقيمية والروحية.
ثمة وصف ثالث للحياة الدنيوية، تؤديه كلمتا بهڤا-روگا bhava-rōga، "داء عضال": كما أن المرض يوهن خلايا الجسم كافة وينخر في صحته، فيؤدي في المآل إلى التلف والموت، كذلك فإن الانتماء الدنيوي إلى العالم مرض نفسي، قوامه الأوهام والتحريفات الذهنية، ويقود في المآل إلى التحلل الأخلاقي والعبثية. فما دمنا نعيش حالًا من الحيرة المتواصلة، تكاد الحصيلة أن تكون محتومة: فالتأرجح بين الأضداد، بين الآمال والمخاوف، يفضي لا محالة إلى اضطراب الذهن وإلى فقدان السلام الداخلي. وهذه، بدرجة قد تزيد أو تنقص، هي خبرة أغلب الناس من مختلف مشارب الحياة ومختلف الأوضاع في العالم. إن الأمل بالارتقاء في المجتمع، بكسب مودة الناس، بالصيرورة شخصًا مرموقًا، إلى آخر ما هنالك، إنما تترافق مع الخوف من الإخفاق والخسارة؛ ومن هذين الضدين الأساسيين – الخوف والأمل – تتولد سائر الأضداد الأخرى، كما تؤكد الـبهگڤدگيتا (4: 22). فالأمل المتحقق يقود إلى التهلل والزهو بالنصر، بينما الأمل غير المتحقق يؤدي إلى خور الهمة والإحباط؛ الذهن، إذ ذاك، يتقاذفه نفسيًّا السخط والرضا، فيبقى حائرًا أو جاهلًا من حيث اختبار قيمة الحياة ومعناها وغايتها القصوى، كما يشدد الأستاذ اليازجي أيضًا في تضاعيف مؤلفاته.
هناك وسائل عديدة يلجأ الناس إليها للتهرب من مشكلة التقلب من حال إلى حال، بين اليسر والعسر، بين الآمال والمخاوف. من أشكال الهروب هذه طلب الملذات الذي بات شديد الشيوع في أيامنا هذه: تجريب أطباق جديدة في المأكل، "موضات" جديدة في الملبس، اكتشاف بلدان وأماكن جديدة، إلخ. إن هذه النشاطات ليست سيئة بالضرورة، على أن يوازنها مبدأ الاعتدال ولا تبطنها القسوة أو عدم الاكتراث بحاجات الآخرين؛ لكن المشكلة في مهارب كهذه أنها تستبقي مشكلة الذهن الأساسية دون حل: الحيرة، البلبلة، القلق، إلخ. أشكال الهروب كلها تلهينا عن الحاجة إلى التفكر الجدي في الحياة وفي معناها العميق، لأن الإثارة الحسية تحيِّد الحيرة مؤقتًا وحسب، فلا تلبث هذه أن ترتد إلينا في عنف أشد من ذي قبل.
من أشكال الهروب الأخرى الانقطاع عن "العالم" وعن أعماله والقول: "لا أريد أن أشارك في هذه اللعبة! " وهكذا يعيش المرء حياته منغلقًا على نفسه، إمّا مستغرقًا في شؤون أسرته أو جاليته، أو حتى "أمَّته"، وإما طالبًا الخلاص الفردي. كم من الناس، في أيام تفجُّر العنف والحيرة الهائلة هذه، هم من الانهماك في شؤونهم الخاصة بحيث يعيشون متناسين كل ما عداهم تمامًا. فلو لم يكن الأمر كذلك، لكان أغلب الناس انتفضوا على سياسات حكوماتهم الجائرة في حق شعوب بأسرها، ولثاروا على تصنيع أسلحة الدمار وانتهاك الغابات وإنتاج المحاصيل المعدلة جينيًّا GMO وغيرها من النكبات الصناعية والأبحاث "العلمية" الخطيرة المستشرية في العالم الحديث، ولاستطاعوا أن يضعوا لها حدًّا. لكن ثمة الكثير من الراحة في الأنانية والانصياع وإيكال أمر القرار إلى الآخرين "بالنيابة"؛ وبذا يفعل أغلب الناس ما يفعل سواهم، منساقين مع التيار، آملين، مع ذلك، نوال الأفضل. حياة المحاكاة والانصياع والخنوع قطعًا جزء من الحياة الدنيوية.
* * *
مهما يكن الطريق الذي يسلكه الناس، فإن الإعياء والسأم سرعان ما يدبَّان في نفوسهم مع مرور الوقت. والعديد من المسنين قد اختبروا هذا الأمر، لا لأن من الصعب تقبُّل إعياء جسم يهرم وحسب، لكنْ بسبب الإحساس بنوع آخر من السأم أيضًا: فالخبرات الدنيوية كلها تغدو تكرارية، وبالتالي، مملة، فاقدة الرونق، باهتة، وحتى لا تطاق. لذا فإن بعض النساء والرجال، في العصور كافة ومن جميع الحضارات، اعتزلوا الدنيا في غابة أو جبل أو دير طلبًا للوحدة وحياة الصلاة والتأمل. ولكنْ في تلك الأماكن أيضًا – إذا جاز لنا الحكم على التقارير المنشورة بهذا الصدد –، نقع على الانفعالات والخواطر وردود الفعل نفسها التي نقع عليها في "الدنيا": كأنْ نجد، مثلًا، مختلف صنوف الغيرة بسبب أشياء تافهة، كنيل حظوة لدى رئيس الدير مثلًا، القلوب الكسيرة، التنافس وطلب النفوذ، إلى آخر ما هنالك.
إن حياة الاعتزال الديني لا تختلف كثيرًا عن الحياة الدنيوية إذا تخلَّلها نمط الانشغال الذهني نفسه. بيد أن أغلب الأديان يقول بأنك لا تستطيع أن تعيش في العالم من غير أن تتعلق بتيارَي التفكير والسلوك الدنيويين، فتبقى آمنًا، طاهرًا في الداخل. فالحضور البشري ذو الذهن المتمركز على الأنية egocentric متفشٍّ في كل مكان. حتى جبل إڤرست الشاهق بات يغصُّ بالنفايات البشرية، وأكثر الأماكن عزلة أضحت لا تخلو من الضجيج. ليس اعتزال العالم المليء بالضغط بالأمر السهل، ولا الانتماء إليه كذلك. الجسم السقيم خاضع للضغط، شأنه في ذلك شأن الذهن الوخيم، بمخاوفه وآماله ويقينياته الكاذبة؛ وهذا الضغط يبلغ أوجه في العالم الحديث، بفلسفته التنافسية التي تشدد على الترقية الفردية. ومنه، فإن العديد من الناس باتوا يجدون الملاذ في العكوف على دراسة الأديان والتصوف أو على ممارسة اليوغا والزنْ والتأمل التجاوزي TM والبرمجة اللغوية-العصبية NLP إلخ، فيكثرون من حضور محاضرات والانخراط في "دورات" حول هذه الموضوعات، موهمين أنفسهم بأن هذه النشاطات، التي يرتزق منها "المعلمون" الجُدُد، سوف تحررهم من ضغوط العيش. فما العمل إذن؟
يتوهم الناس أن التقشف في العيش أو الانضباط يقتضي الاعتزال، لكن "التقشف" يمكن العمل به أينما كنَّا. التقشف الجسماني يعني، فيما يعني، الاستقامة وكف الأذى والعفة؛ التقشف في القول يعني قول الكلمات الصادقة، غير الجارحة، التي تساعد على بلوغ معرفة النفس؛ التقشف الذهني يعني نفاذ البصيرة، وليد الخواطر النقية والذهن الصافي، الذي يقود إلى التأمل. يقول ج. كريشنامورتي:
التأمل عمل شاق. إنه يتطلب أرقى أشكال الانضباط – ليس الانصياع، ليس التقليد، ليس الطاعة، بل انضباط يأتي عبر الانتباه الدائم، ليس إلى الأشياء من حولك خارجيًّا وحسب، بل داخليًّا أيضًا. ومنه، فإن التأمل ليس نشاطًا عازلًا، بل هو فعل في الحياة اليومية يتطلب التعاون والحساسية والفطنة. فمن دون وضع أساس لحياة مستقيمة يصير التأمل هروبًا، وبالتالي، لا قيمة له أيًّا تكن. والحياة المستقيمة ليست التقيد بالآداب الاجتماعية، بل التحرر من الحسد والجشع والسعي إلى السلطة – وكلُّها يورث العداوة. التحرر من العداوة لا يأتي عبر نشاط إرادي، بل بالانتباه إليها عبر معرفة النفس. فمن دون معرفة نشاطات النفس، يصير التأمل مجرد استثارة حسية، وبالتالي، غير ذي مغزى يُذكَر.
[1] - راجع مثلًا: المحبة والوعي: حوار مع ندره اليازجي، بتقديم موسى د. الخوري، دار تساؤلات، دمشق، 2010، ص 104-106.
[2] Cf. Eugen Drewermann, Fonctionnaires de Dieu, Albin Michel, Paris, 1993.
[3] التقشف يؤديه بالسنسكريتية مصطلح تپسtapas، الذي يعني أصلًا استهلاك العناصر الفاسدة في النفس كافة.
[4] ج. كريشنامورتي، التأمل، بترجمة وتقديم ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008، ص 24.
16 نوفمبر . 2 دقيقة قراءة